مازن الجعبري – باحث وكاتب مختص في شؤون القدس

أثار قرار وزيرة التربية والتعليم الإسرائيلية  “شاشا بيتون” مؤخرا حرمان مدارس الايمان والكلية الابراهيمية من الترخيص الدائم لمدة عام، واستبدالها بترخيص مؤقت من اجل “تصحيح” بعض المواد في الكتب المدرسية، التي تعتبرها حكومة الاحتلال تحريضية، هذه الخطوة السياسية فتحت النقاش والمداولات على أسباب ذلك ، وكيف يمكن الخروج من هذه الورطة دون اغلاق المدارس الفلسطينية، وكذلك فتحت المجال لنقاش الأسباب والحلول وتبادل الاتهامات والمسؤولية.

مازن الجعبري – باحث وكاتب مختص في شؤون القدس

ان الصراع الجاري على أسرلة قطاع التعليم الفلسطيني في القدس هو جزء من السياسة الإسرائيلية لتغيير هوية المدينة السياسية والتاريخية والجيوديمغرافية والثقافية،  وإسرائيل تدرك وتعمل على تغيير هوية التعليم لأنه المخزون الثقافي والتاريخي والتعليمي لبلورة الهوية عند الفلسطينيين، لقد حاولت إسرائيل مبكرا عند احتلالها الجزء الشرقي من المدينة عام 67 السيطرة على قطاع التعليم ولكن الإدارة التربوية والمعلمين الذين كانوا يتمتعون بوعي سياسي وطني، وقفوا ضد هذه الخطوة الإسرائيلية وافشلوها، ولكن إسرائيل وعبر تجربتها مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48 تدرك انها بسيطرتها وسياساتها الشمولية في المدينة وتطبيق سياسات الترهيب والترغيب والاغراء سوف يجعلها اقرب الى تحقيق أهدافها من خلال اضعاف الحوامل الفلسطينية وخاصة في الخواصر الاجتماعية الضعيفة.

توقيع اتفاق أوسلو 13\9\1993 كانت نقطة تحول في اسقاط قضية القدس وفتحت المجال امام عزل القدس وتفرد إسرائيل بالسيطرة عليها وفصلها بشكل كامل عن الأراضي الفلسطينية عام 67، ولكن في عام 2011\2012 استطاع الاحتلال النفاذ الى داخل قطاع التعليم الفلسطيني بشكل واسع، من خلال قبول إدارة المدارس الاهلية تمويل وزارة التعليم الإسرائيلية وقسم المعارف في بلدية القدس والذي يتجاوز سنويا 50 مليون دولار، لقد كان الافتراض الذي اعتمدت عليه إدارة المدارس الخاصة الاهلية انه “هذا حق للمقدسيين بما انهم يدفعون الضرائب” ورغم رفض الفعاليات والقوى الوطنية لهذا الموقف فقد حثت المدارس على عدم قبول الخطوة لأن “ذلك سيفتح الباب امام أسرلة التعليم”، إلا ان هذه المدارس وضعت شروط ومنها التمويل البديل والتي تدرك ان لا احد يستطيع توفير البديل، خاصة وأن اغلب الميزانيات المطروحة حاليا من إدارات المدارس غير واقعية، والا كيف كانت تعمل المدارس قبل وجود السلطة الفلسطينية وقبل عام 2011؟, تعتبر المدارس المتلقية للتمويل الإسرائيلي ان هذا من باب المزايدة عليها, وكانت مواقفها المعلنة انها لن تسمح ابدا بتدخل إسرائيل بشؤونها الداخلية، ولكن تعيين (بينيت) وزيرا للتعليم عام 2015 شكل نقطة تحول مفصلية في أسرلة التعليم وإدخال المنهاج الإسرائيلي وكان يقول “سياستي واضحة ولا لبس فيها: المساهمة في أسرلة التعليم في القدس” خلال فترة (بينيت) تم ضخ الميزانيات لتطوير التعليم في المدارس التي يسيطر عليها قسم المعارف وتم فتح العديد من الصفوف التي تدرس المنهاج الإسرائيلي وتم تدريجيا وضع الشروط على المدارس الخاصة بما يتعلق بالصيانة والترميم والمعلمين وإدخال بعض المشاريع المدرسية ومحاولة ادخال المنهاج الفلسطيني المزور وخضوع المدارس للمفتشين التابعين لقسم المعارف في البلدية بالإضافة التي تمويل مئات الروضات الرسمية والمعترف بها، وهكذا تدحرجت كرة أسرلة التعليم في القدس مع سياسات تشجيعية لدخول الطلاب المقدسيين الى الكليات والجامعات الإسرائيلية وتعليم اللغة العبرية والخدمة المدنية بما فيها التراجع الكبير في عدد الطلاب الفلسطينيين في مدارس التربية والتعليم واغلاق مديرية التربية والتعليم عام 2019 التي تتبع دائرة الأوقاف الأردنية في القدس.

عام 2018 حدث تحول سياسي كبير عند الحكومة الإسرائيلية في حسم موضوع القدس للوصول الى القدس الكبرى عاصمة يهودية أبدية لها وعلى اثر اعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وتشريع قانون هوية الدولة باليهودية مما دفع الحكومة الإسرائيلية الى وضع خطة خمسية 2018 -2023 (لتقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية والتطوير الاقتصادي لشرقي القدس) بميزانية تتراوح بين 2-3 مليار شيكل كان نصيب التعليم منها 445 مليون شيكل على الأقل، وشكلت هذه الخطة اكبر تدخل في تهويد وأسرلة المدينة وتحولات دراماتيكية في دمج الفلسطينيين في المؤسسات والخطط الإسرائيلية.

كيف سيواجه الفلسطينيين القدرات والمخططات الإسرائيلية، وهم يشكلون مجتمع غير منظم متنافس وفي بعض الأحيان تربطه علاقات التنافس العدائي، لقد كان نتيجة اغلاق بيت الشرق ووفاة فيصل الحسيني عام 2001 انهاء وجود مرجعية سياسية للفلسطينيين، وفتحت الباب امام تشكل أطر ومؤسسات رسمية وغير رسمية وشعبية متعددة، ضاعفت التحديات امام الفلسطينيين في القدس بما فيها الامتدادات للانقسام الفصائلي، بالإضافة الى انعدام الإرادة السياسية عند الحكومات الفلسطينية للعمل في القدس وضعف مديرية التربية والتعليم لمواجهة التحديات الكبيرة في القدس.

مجتمع غير منظم مع تعدد المظلات التربوية وأيضا على الصعيد الشعبي والنقابي، فلجان أولياء الأمور يتبع قسم منها بلدية الاحتلال(لجان أولياء الأمور الإسرائيلية) والثاني فلسطيني (اتحاد لجان أولياء الأمور الفلسطيني) والذي يعاني أيضا من ضعف ومحدودية في العمل، وقد ساهمت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية في ضعف هذا الجسم من خلال دستور المدارس الذي يشير ان مدير المدرسة هو رئيس للجنة أولياء الأمور، بالإضافة الى محاربة إدارة المدارس لوجود اجسام فاعلة لأولياء الأمور داخل مدارسها، مع ان اتحاد أولياء أمور المدارس يحاول ان يلعب دورا في الحفاظ على المنهاج الفلسطيني، الا ان العملية صعبة بسبب التحديات السابقة.

 لقد سبَّب تراجع فصائل العمل الوطني وسياسات المدارس الى انهاء الاجسام الطلابية التي كانت تلعب دورا كبيرا في العمل السياسي والطلابي داخل المدارس، مما أفقدنا كل الاجسام الاهلية والنقابية وغياب اتحاد معلمين ناشط وفاعل بسبب تراجع فصائل العمل الوطني وتراجع المشروع الوطني أفقدنا نقاط قوة كان بإمكانها ان تحمي قطاع التعليم الفلسطيني في القدس من الأسرلة والدمج في المؤسسة الإسرائيلية.

الحراك الشعبي والوطني والمؤسساتي لم يتوقف لدعم عمل التعليم الفلسطيني في القدس ومواجهة اختراق إسرائيل للعملية التعليمية من خلال الاغراء والترهيب، وهذا العمل اصبح منظما منذ عام 2011 وكان يواصل عمله ليلا ونهارا بمشاركة جميع من كان لهم علاقة بالعملية التعليمية، قبل ثلاث سنوات تم الاتفاق على تشكيل أطار مهني تربوي وجماهيري لحماية التعليم الفلسطيني في القدس تحت مسمى (المجلس التنسيقي للتعليم في مدينة القدس) وهذا الجسم الذي تم العمل على بلورة هيكليته وأهدافه وبرامج عمله مختصين تربويين، لم يخرج الى النور بسبب معارضة مديرية التربية والتعليم في القدس، وعدم اهتمام وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، حيث اقتصر عمله حاليا فقط على إصدارات بعض البيانات فيما يتعلق بمجريات التعليم.

أعتقد ان أكبر معضلة نواجها في القدس هي فقدان إيمان الناس بالمنهاج الفلسطيني وامتحان التوجيهي والذي هو المكون والعامل الرئيسي الذي بإمكانه حماية التعليم الفلسطيني من الأسرلة، إن توجه العامة وتشجيع أبنائهم الالتحاق بالمدارس والمناهج الإسرائيلية والبجروت وعشرات الكليات التعليمية والمهنية والتكنولوجية والحوافز الكبيرة التي توفرها السلطات الإسرائيلية لأسرلة التعليم بدأت تظهر معالمها وإن كان يعتقد البعض انها ما زالت بطيئة.

تسعى إسرائيل من خلال أسرلة التعليم الى بلورة هوية فلسطينية متمايزة تقبل بالخضوع للهيمنة من خلال وسائل أقل عدائية وأكبر تأثيرا على المدى البعيد، وهي تدرك ان الفلسطينيين ممزقين وتائهين وغير قادرين على المواجهة الشاملة والاستراتيجية والحيوية.