بقلم/ محمد جرادات

يجمع الإعلام العبري على أن التفجير المزدوج الذي شهدته القدس هو “الأسوأ” منذ انتفاضة الأقصى، ليس بسبب نجاحه في بثّ الرعب وعدد القتلى والمصابين، ولكن بسبب قدرة الفلسطينيين على تصنيع عبوات ناسفة وإدخالها إلى المناطق المحتلة.

قوانين الفيزياء، كما التاريخ، ترسم معادلة القدس. يحدث ذلك عندما يأتي الفعل برد فعل مساوٍ له في المقدار، ولكنه معاكس في الاتجاه. وجهة القدس كانت، وما زالت، عبر التاريخ ترتدّ غضباً في وجه الغزاة. وقد فعلتها أمس وهي تَعْبر في عنفوان حديدها ومساميرها المتناثرة قنطرة الزمن، لتسابق الأيام الفاصلة عن استلام المراهق العبري إيتمار بن غفير وزارة “الأمن الداخلي” المسؤولة عن شرطة القدس والمسجد الأقصى بصورة مباشرة.

أرادتها “الصهيونية الدينية” استباحةً مفتوحةً للقدس وفق عقيدة التلمود المتوحشة، عندما رشّح حزبها الفائز في الانتخابات، بن غفير، وهو بيضة القبّان في الائتلاف الذي يطبخ معالمه نتنياهو على نار ساخنة، لتولي حقيبة “الأمن الداخلي”، فإذا بفتية القدس يطلقون رداً عابراً للفضاء الإلكترونيّ، بتفجير مزدوج مزّق الحافلات بعبوات ناسفة تم تفعيلها من بعد، ربما عبر الهواتف، لتنتج منها عشرات الإصابات بين قتيل وجريح.

أتى التفجير المزدوج بعدما تعافت من مثيله القدس وبقية المستوطنات المقامة على أنقاض الحق الفلسطيني منذ عقدين من الزمن، بما شكّل صدمة عنيفة في جذور الوعي الإسرائيلي. وقد غصّت شوارع القدس بالآلاف من رجال الشرطة وهم يفتشون الحافلات بارتباك غير مسبوق، في ظل شائعات عن تفجير ثالث هنا ورابع هناك انتشرت كالنار في الهشيم.

أجمع الإعلام العبري على اعتبار هذا التفجير المزدوج الأسوأ منذ انتفاضة الأقصى، ليس بسبب عدد القتلى والمصابين، بحسب “إسرائيل هيوم”، ولا بسبب نجاحه في بثّ الرعب في المدينة، كما قالت أيضاً، وهو ما استدعى تدخل مؤسستي “نيتال” و”عيران” للدعم النفسي، ولكن بسبب القدرة على تصنيع عبوات ناسفة شديدة الانفجار، وإدخالها إلى المناطق الإسرائيلية، وتفجيرها من بعد في الأماكن المكتظّة بالإسرائيليين.

وقد جزم الوزير الحالي لـ”الأمن الداخلي” عومر بارليف بأن الهجوم جاء نتيجة عمل بنية تحتية منظمة، وليس مجرد إلهام شخصي، كما كان يحصل في السنوات الأخيرة، وهي بُنية نجحت في تجاوز الرادار الإسرائيلي، بحسب أمير بوخبوط. تكمن خطورة هذه البنية التحتية في أنها تستطيع جمع معلومات استخبارية، وتملك متفجرات، ولديها إمكانية زرعها، وفق ما جاء في “هآرتس”، وهي فرقة ماهرة أثبتت فشل الاستخبارات الإسرائيلية، بحسب وصف ريشت كان.

وقد سبق لموفاز وشارون ونتنياهو الاعتقاد بأنهم نجحوا في كيّ الوعي الفلسطيني، عبر خلق جيل فلسطيني ردعته التطورات الميدانية لما بعد انتفاضة الأقصى وتداعياتها النفسية عقب انتهائها بعد ما حققته من توازن للرعب لسنوات، لينشغل بعد ذلك السّاسة الفلسطينيون، كما أرباب العوائل، بالبحث عن نوافذ الارتزاق بزيادة عدد تصاريح العمل في “تل أبيب” وحيفا، أو بالتسابق الوظيفيّ على ما تبقى من هياكل السلطة الفلسطينية.

أفرز المجتمع الإسرائيلي قادته المنتخبين، ليحصل مطرود من الجيش سنة 1994 (إيتمار بن غفير) على كتلة نيابية تجاوز عددها ما حصل عليه قائد فرقة المظليين في “الجيش” (بيني غانتس) في السنة التي طُرد الأول فيها، وعينه مفتوحة بكل “شرعية” دستورية على وزارة “الأمن الداخلي”. وقد تكشّف أن 30% من جنود “الجيش” ونحو 50% من رجال الشرطة صوّتوا له.

ماذا يعني تولّي بن غفير وزارة “الأمن الداخلي”، في وقت رفض نتنياهو، بضغط أميركي، تولّي رفيق بن غفير وزعيم كتلته، بتسلئيل سموتريتش، وزارة “الدفاع”؟ لقد أصبح من المسلّم به استلام بن غفير “الأمن الداخلي”. لذا، هرع إلى موقع التفجيرين، وتعهّد استعادة الردع عبر المسارعة إلى تأليف حكومة اليمين و”العودة إلى الاغتيالات المستهدفة، ووقف التسهيلات في السجون، وفرض القيود على المعتقلين فيها، ووقف المدفوعات للسلطة الفلسطينية التي تدعم العنف وقاتلي اليهود”.

قطع رئيس الأركان أفيف كوخافي زيارته لأميركا، التي سارعت، ومعها تركيا، لإدانة التفجير، واعتبرتاه “إرهاباً ضد المدنيين”. وسبق لهما منذ أيام أن دانتا عملية “أرئيل” التي طالت 7 مستوطنين مسلحين في قلب الضفة الغربية، في وقت باركتا فوز غلاة اليمين، واتصل بايدن وإردوغان وغيرهما من زعماء العالم بنتنياهو لتهنئته، ولم يصدر عنهم موقف رسمي ضد تعيين بن غفير على رأس “أمن” القدس والمسجد الأقصى، على الرغم من مواقفه المتطرفة المعلنة.

اتّجه العالم إلى قبول بن غفير، وإن بشكل ضمنيّ، زعيماً لـ”الأمن” في القدس المحتلة، بعد سنوات على نقل السفارة الأميركية من “تل أبيب” إلى القدس، فجاء التفجير المزدوج، ليستبق اشتعال عود الثقاب؛ لحظة جلوس بن غفير على مقعد وزارته، وهو يعطي تعليمات جديدة لقادة الشرطة ورجالها باستبدال قوانين إطلاق النار في ساحات الأقصى وعبر أزقة القدس؛ فبدلاً من الوحشية المزاجية، كما هو سائد، يريدها بن غفير وحشية قانونية ملزمة، يعاقب فيها الشرطي في حال تردَّد في إطلاق النار على صبي يحتج ضد القمع، أو يرمي حجراً ضد هدم بيته بسبب عدم الترخيص، أو يرفع قبضته ليدافع عن نفسه وبيته وأهله ضد مستوطنين يقتحمون زقاقه.

إنه ثأر شخصيّ يفرغه نتنياهو في وجه قادة الشرطة الذين لطالما أجروا تحقيقاتهم ضد فساده وفساد زوجته، ليقذفهم ببن غفير، بوصفه لعنةً حيثما حلّ، وهو يفتقد الخبرة المهنية، ولا يفهم بالتراتبية في جهاز الشرطة.

وقد اتفق معه مسبقاً على إدخال تعديلات قانونية تجعل قائد الشرطة تابعاً للوزير، ما جعل الوزير الحالي بارليف يعتبر هذا الاتفاق وصفةً لتدمير الشرطة والإضرار بـ”الديمقراطية” التي تحول بين انتماء الوزير السياسي والعمل المهني لقادة الشرطة، بما سيؤدي إلى إضعاف هيئات التحقيق والاستخبارات والعمليات.

تعيين بن غفير على رأس “أمن” القدس بعد تفجيرها المزدوج هما حدثان مفصليان ربما يأخذان القدس وكل المنطقة نحو مواجهة حتمية قد يضطر كثيرون إلى خوض غمارها بخلاف رغبتهم. وقد وصلت النار إلى مغامراتهم السياسية وطيشهم الفكري، كيوم وجدوا أنفسهم في وجه باروخ غولدشتاين وهو يُجْهز على المصلين في المسجد الإبراهيمي، في وقت يتحضر كل شرطيّ ليكون “باروخ” بنصّ القانون، لرسم حروف الصهيونية الدينية وقد انبعثت من تراث “كهانا” حيّ.