تعتبر القضية الفلسطينية من أعقد قضايا التحرر في العالم، والتي عجزت الهيئة الأممية عن تسويتها رغم كل الجهود التي بذلت وتبذل منذ قيام دولة الإحتلال الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، وظهور عدة حلول وإقتراحات حول تقسم الأرض بين الشعب الفلسطيني صاحب الحق وبين قطعان المستوطنين القادمين من مختلف قباع الأرض، لكن في كل مرة تفشل تلك المقترحات، وفي نفس الوقت تتقلص الأراضي التي يسيطر عليها الفلسطينيون، وفي نفس الوقت تزيد مساحة الكيان الصهيوني، إلى أن تمت السيطرة الكلية على كل الأراضي الفلسطينية، وإنتقال التسوية من المواجهة العسكرية إلى مبدأ الأرض مقابل السلام.
مشكلة فلسطين أنها ليست قضية سياسية عادية بل هي صراع حضاري بين ديانات وثقافات وحضارات، ربما لا تستطيع الدول والأنظمة السياسة أن تقدم شيئا أو تأخر في ما يتعلق بحل القضية، التي تحدد تفاصيلها الكتب المقدسة، ورغم أن الصراع على الأرض إلا أن الحلول تأتي من السماء، وهي متناقضة بين أمم تدعي كلها معرفة أخبار السماء، وأن الله جعل لها الأرض المباركة ملكا خاصا لا يشاركها فيه أحد، فكل من التوراة والإنجيل والقرآن الكريم يشيرون إلى بيت المقدس وأكنافها وأهميتها العقدية عند أصحاب كل معتقد ديني، وهنا مشكلة فلسطين فهي أرض مباركة والكل يريد أن تكون البركة من نصيبه.
ومشكلة فلسطين الأكثر تعقيدا هي مدينة القدس في حد ذاتها، فهي عتبة بين السماء والأرض، بين المقدس والمدنس، فلكل ديانة أماكنها المقدسة وحرمها التي تحرم على أتباع الديانات الأخرى، بل حتى أصحاب الدين نفسه، لا يتواجدون بها إلا بعد الإستجابة لجملة من التقييدات والتحريمات، أو ما يعرف بطقوس العبور والتطهر قبل ولوج المقدس، لنجد مدينة القدس تقع على مفترق الطرق بين ديانات ثلاثة تنظر إليها نظرة واحدة، فهي عتبة مقدسة عند اليهود والنصارى والمسلمين، وفيها ومن خلالها يتصل المؤمنون بالله ويتواصلون معه، فالأماكن المقدسة التي تقع على الأرض هي اقصر الطرق بين السماء الأرض، والتواجد فيها يختلف عن التواجد في غيرها، حيث يتغير الزمان والمكان، فكل شيء هناك يسير وفق ترتيبات المقدس، وهو وفق النموذج الأولي حيث تدخل الله وقرر ما المقدس؟ وكيف يتجلى؟ ومن هم المالكون الشرعيون له؟ كما أن المدنس ينحصر ويتراجع ويكاد يتلاشى داخل المكان المقدس وحتى في محيطه، وهذا ما أشار إليه العديد من الانثروبولوجيين المهتمين بالظاهرة الدينية من أمثال روجي كايوا، ورودولف أوتو، وفراس سواح، ومراسال موس، مرسيا إلياد وغيرهم، فالمكان المقدس، يتقدس فيه الزمان والإنسان ويصبح جزء من ذلك المكان.
فمن خلال فكرة القداسة التي تحيط بالقضية الفلسطينية وبمدينة القدس خصوصا، تصبح تلك القضية جد معقدة وتتحكم فيها عوامل غير سياسة بل عقدية حضارية وثقافية، وهي السمة الأكثر بروزا في صراعات ما بعد نهاية الحرب الباردة، حيث إستفاقت الأمم والشعوب، لتتبارز وتتنابز ثقافيا ومن بين أشكال الصراع هو الهيمنة على الأماكن المقدسة وتحويلها إلى ملكية حصرية لأمة واحدة ولديانة واحدة، وهذا ما يجعل كل الحلول التي تقدم للقضية الفلسطينية سياسيا، وهي لا تراعي لمعضلة الدينية، تبدو حلولا عبثية، يقبلها الساسة ويرفضها راجل الدين والشعوب الباحثة عن الخلاص، فالخلاص لا يكون إلا في الأمكان المقدسة حصرية الملكية لأمة واحدة من الأمم، وهذا ما يحكم الصراع الفلسطيني الصهيوني، فمثلا لو عرض على اليهود كل فلسطين بدون القدس ما قبلوا، ونفس الشيء لو عرض على الفلسطينيين وكل المسلمين فلسطين كلها بدون القدس ما قبلوا، فالقدس هي مربط الفرس وبيت القصيد، فمشكلتها أنها ليست قابلة للقسمة، بل هي موحدة وواحدة ومن نصيب أمة واحدة، هكذا جاء في الكتب المقدسة التي تجعل من الحلول السياسة إعتداء على الشريعة التي حددت ما المقدس ومن هو الأحق به؟
القدس ليست شرقية ولا غربية بل هي مدينة واحدة من نصيب أمة واحدة، تستطيع الحصول عليها والإحتفاظ بها، ولذلك لا بد على المسلمين التفكير على كيفية إسترجاع المدينة المقدسة، التي لا يحق لهم تقسيمها أو القبول بقسمتها، فهي من بين مدن الله التي حدد الله طبيعتها وملكيتها، ولذلك لا يحق لأي كان التنازل عن شبر واحد من القدس، فالأماكن المقدسة إما أن نخسرها كلها أو نحتفظ بها كلها، وهذا ما يحكم الصراع حول مدينة القدس، فلا اليهود يقبلون بالجزء الغربي ولا المسلمين يسعهم الجزء الشرقي، بل هي مجرد مسايرة للوضع وخضوع لمنطق القوى وللتوازنات الدولية والإقليمية، بينما في النهاية ستكون القدس واحدة موحدة لأمة واحدة هي الأمة التي وعدها الله بأن تقيم دولته على الأرض، وفق أخر إتصال بين السماء والأرض، أي أن القدس للمسلمين شرقها وغربها وأكنافها وكل ما يحيط بها، ولذلك علينا أن نعمل على كيفية تجسيد هذا المشروع مثلما يعمل غيرنا على تجسيد مشاريع إنتهت صلاحيتها، لكن رغم ذلك هم يعملون عليها ليلة نهارا، بينما لا زلنا نحن أصحاب المشروع الحقيقي واليقيني نؤمن بالترتيبات السياسية العبثية.