المخطط الإسرائيلي، يقوم في بعده الاستراتيجي، على إعادة الهيكلة التامة للوعي العربي، بما يضمن أولًا وجودها السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وثانياً تأثيرها كعنصر يتحكم بقطاعاته المختلفة.
تبرزُ ظواهر في الحياة لا نُوليها القدْر الكافي من القراءة والتمحيص. من تلك الظواهر التي بدأت تتشكّل وتتمظهر في حياتنا ما نلاحظه من محاولة استبدال مفردات الصراع التي سادت فترات طويلة بأخرى “تلائم” الحالة العربية العامة المترهلة التي نعيش.
بعد إعلان اتفاق التطبيع، مع ما صاحبه من تبدّل في القيم والمفاهيم، ومن تحولات كبيرة في جميع مناحي الحياة ومفاهيمها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، بدأت مرحلةٌ أخرى مغايرة كلياً لما سبقها، إذ أصبح الصراعُ منصباً على تكوين ملامح المرحلة الجديدة و”أدوات الصراع الجديدة”.
صحيحٌ أنه لم يمضِ سوى فترة زمنية قصيرة جداً لرصد وتقصي التحوّلات الجيوسياسية الواسعة والعميقة، لكنّ بعض الآثار قد تظهر في فترة أقصر من تلك بكثير، بل قد يكون بعضها فورياً أيضاً. هذا ما يمكن قوله، بدرجةٍ عالية من الدقة في التشخيص والتقويم، عن اتفاقيات التطبيع وما نجم عنها من تأثيرات عديدة مختلفة ظهرت بصورة واضحة في السنوات الأولى من عمر هذه الاتفاقيات.
يمكننا القول إن هذا المسار قد طاول مجالاتٍ مختلفة هدفت إلى إضعاف روح المواطنة، وانقسام الهوية والتباس الوعي الاجتماعي، وتعزيز “الأنا” على حساب “الكل”، بما يسبب الإحباط النفسي لدى غالبية أبناء المجتمع العربي. زد على ذلك التباساً في المفهوم، وفي الهوية، فما يشهده الوطن العربي اليوم هو جزءٌ من نرجسية “الأنا” ومتوالياتها بما أحدثته من اختلالٍ في منظومة القيم، وبما قد تُهيّئه من مناخاتٍ لقيم الصراعات المستقبلية في الوطن، لا قدّرَ الله.
يدرك الجميع قوة اللغة وأهميتها في تكوين العالم الأخلاقي الذي نعيش فيه. عربياً أيضاً، لم تَعُد بعض “النُخب السياسية” مستعدةً لاستمرار استخدام المفردات “السياسية الثورية” القديمة للتعبير عن العلاقة السائدة بين “إسرائيل” من جهة، والعرب من جهة أخرى، بل تسعى لترسيخ إطارٍ لغوي سياسي يتوافق و”مُقتضيات المرحلة”، من خلال تغيير المصطلحات والمفاهيم الأخلاقية الوطنية التي كانت سائدة، مثل “العدو”، و”التحرر”، و”الكفاح المسلح”، و”الاشتباك العسكري”، و”العمل الفدائي”… واستبدالها بمصطلحاتٍ من نوع “اشتباك سياسي” و”إحراج العدو” و”مقاومة سليمة”، “ومحور الاعتدال”، “وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، و”الديانة الإبراهيمية”، وغيرها.
ولم تعد مفردات “لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل” قائمةً بالمطلق، بل إن هناك رؤية جديدة تشكّلت في اتجاه هذه العلاقة، تقوم على أساس الاستجابة للموقف الأميركي الداعم والمحفز لانخراط “إسرائيل” في منطقة الشرق الأوسط، واستبدال كل ما يمكنه أن يشوش على هذا الانخراط.
هذا التغيير الذي طرأ على المفردات والمفاهيم الأخلاقية يعني أن هذه “النخب” لم تعد قادرةً على تقديم نفسها على أنها تواجه “قضايا صراع عسكري” ناتجٍ من “نزاعٍ حول الأرض”. وتوضحُ اللغة الجديدة أننا أمام “حالة” تُدرك التبعات “الإقليمية والعالمية” لموقفها ومدى خطر مفرداتها ولغتها، إذ يأتي تغيير اللغة بهدف “تطويع المجتمع” وإقناعه بمواجهة الحقيقة وتقبُّل الواقع كما هو، وتحقيق المَصالح الحصرية لهذه “النخب،” ومن ثم مصلحة المشروع الصهيوني الاستعماري في التمدّد والسيطرة، وشرعية وجوده التي يحتاج إليها بهدف التوسع الجغرافي السياسي في المنطقة.
وكلّنا يدرك أن “الصراع العربي الإسرائيلي” يندرج تحت ما يمكن أن يُسمّى “الصراع الاجتماعي”، إذ يقوم على المفهوم الوجودي الإحلالي، لا على الصراع على الحدود فحسب، ويؤدي البعد العقائدي فيه دوراً محورياً يعزّزه الفكر الصهيوني ومحاولة إعادة بناء الرواية الوجودية للاحتلال.
المخطط الإسرائيلي، يقوم في بعده الاستراتيجي، على إعادة الهيكلة التامة للوعي العربي، بما يضمن أولًا وجودها السياسي في منطقة الشرق الأوسط، وثانياً تأثيرها كعنصر يتحكم بقطاعاته المختلفة، من خلال السيطرة بعناصر القوة التي تمتلكها، وتتمثل في التعليم والتقنية والاقتصاد، وتُمكّنها من خلق حال من الهدوء العام فترةً طويلة تصل فيما بعد إلى شكل من التفاهمات على مستوى دولي وإقليمي وعربي.
في الواقع، في الجانب النفسي، تُغيّرُ هذه “النخب” العربية اللغة المستخدمة في “الصراع الإسرائيلي العربي” وتستبدل القواعد الأخلاقية الوطنية الثورية، وهو ما تحتاج إليه لتمضي قدماً في مشروعها التطبيعي، والأهم فهي لا تأتي عفوية، بل مقصودة، إذ إن جوهر التطبيع وهدفه يسعيان إلى جعل الوجود اليهودي العنصري في فلسطين أمراً طبيعياً يحظى بالقبول والتسليم به، فلا يستدعي المقاومة والصراع الوجودي معه.
في الواقع، إنها تعبيرٌ عن “العجز” التام الذي أصابها، فيما يغلب عليها اندفاعها إلى تبرير العجز متى شعرت به يطوقها، فهي تفعل ذلك للدفاع عن الذات المتهمة بالعجز. وبحسب علماء النفس، فإن الشعور بالعجز أو الفشل أو التقصير يسببُ ألماً شديداً للذات، فيتجه العقل إلى البحث عن مبرراتٍ لما حدث ليخفف عن نفسه الشعور بالألم الذي يحسه نتيجة ما بدر منه من تقصير أو عجز أو فشل. أحياناً، قد تبدو بعض التبريرات مقبولةً، وربما تنطلي على السامعين، لكنها في أحيانٍ كثيرةٍ لا تكون كذلك.
أحياناً، لا يكون التبرير وحده كافياً لتخفيف وقع ألم الشعور بالعجز على الذات، فيتجه الإنسان إلى البحث عن البدائل التي تُعوّضُ ما عَجزَ عن تحقيقه، كقول عاشقٍ لما عَجزَ عن لقاء الحبيبة، فالتفت إلى نفسه يعزيها بامتلاكه بدائل تجعل ما فات عليه تحقيقه غير ذي أهمية:
أليس الليلُ يـجـمـع أمَّ عمروٍ وإيانا، فـذاك لنا تــدانــي
نعم، وأرى الـهلالَ كما تراه ويعلوها النهارُ كما علاني
هذه البدائلُ، وإن بَدت كاذبةً إلى حدٍ يدفعُ إلى الضَّحِكِ منها، إلا أنها تُمد صاحبها بالشعور بالراحة، فها هو يقنع نفسه أنه سعيدُ الحظ ما دام ليل واحد يُظلّه والحبيبة، ونهارٌ واحد يُشرق عليهما معاً، وقمر مشترك بينهما تتعانق عيونهما في تأمّل جَمالِه.
التبرير نوع من المقايضة مع الذات، إذ يخدع الإنسان نفسه ويكذب عليها ويغالطها حتى ترى الأشياء والمواقف باللون الذي تحب. في مقابل ذلك، تَمنَحُهُ الشعور بالراحةِ والرضا. ورحم الله المتنبي إذ قال: إن الحياة لا تصفو إلا لمن يُغالط في الحقائق نفسه!
في الحصيلة النهائية، يستهدف المطبّعون إحداث انقلاب في وعي الأمة بالتلاعب بالمفردات والمفاهيم، واختطاف الأمة ذهنياً لمصلحة العدو الغاصب، حين تتبدل المفاهيم ويتحوّل العدو إلى صديق، والصديق إلى عدو، كما يستهدف إعادة صياغة عقولنا وتفكيرنا من أجل تقبل وجود العدو الإسرائيلي ليصبح أمراً طبيعياً، بما يعنى تخلّي أمتنا العربية والاسلامية عن القضية الفلسطينية، وعن القدس والحرم القدسي.
في الختام، يجب ألا يؤدي بنا هذا “التلوّن” وتبدل المفاهيم إلى اليأس، بل هي لحظة وضوحٍ “أخلاقي” كاشفٍ سافرٍ، وخطوة طارئة في مسيرةٍ طويلة يحرّكها الأمل.