الكاتب راسم عبيدات
في إطار الفعل الشعبي الميداني،تبرز الأنمذجة والأمثلة،وكذلك الإبداعات في التصدي لمشاريع ومخططات التهويد والأسرلة،وفي التصدي أيضاً لمخططات الطرد والتهجير والتطهير العرقي وهدم المنازل،ومحاولة فرض وقائع تطال هوية المكان أو قدسية هذا المكان….والميدان دائماً مليء بالتجارب والأمثلة التي تشتق منها الأساليب والطرق والخطط والآليات لكيفية التصدي ومجابهة ومواجهة هذه المشاريع والمخططات،وهذا رهن بوجود قيادة تمتلك الرؤيا ووضوح الهدف والقدرة على الحشد والتأطير والفعل في الميدان،بعيداً عن “فوبيا” التنظير والشعارات الرنانة،أو إدارة الحركة من الأبراج العاجية أو من خلف “الكيبوردات الفيسبوكيه” …الخ.
وهنا قبل الخوض في التفاصيل،لا بد من التوضيح، بأن أي هبة شعبية أو جماهيرية ذات بعد وأهداف ومطالب سياسية او مطلبية حياتية اقتصادية،اجتماعية وخدماتية أو هبة تأتي كردة فعل على فعل معين تحتاج الى روافع وحوامل وكتلة بشرية كبيرة،وقيادة مالكة للرؤيا ومحددة للهدف بوضوح،وقادرة على أن تستثمر وتوظف الهبة أو التحرك الشعبي والميداني،في مراكمة الإنجازات على طريق تحقيق الهدف المحدد،ولا بد من أن تكون القيادة مؤتمنة،تثبت على مواقفها والأهداف التي تخاض الهبة او المعركة الشعبية والجماهيرية من أجلها؛ وهذه المعارك أو الهبات قد تكون معركة قصيرة المدى او طويلة المدى…..فعلى سبيل المثال في الهبات التي خاضتها مدينة القدس لغاية وهدف محدد،….استطاعت أن تحقق انجازات وتفشل مشاريع ومخططات تهويدية وكذلك مشاريع أسرلة…فعلى سبيل المثال الهبة التي أتت كرد على وضع البوابات الألكترونية على بوابات المسجد الأقصى في تموز/2017 ،تمكن المقدسيون واهلنا وشعبنا في الداخل الفلسطيني- 48 -،من إجبار دولة الكيان على إزالة تلك البوابات،عبر صلوات واعتصامات متواصلة وبكتل بشرية ضخمة في الشوارع وعلى بوابات المسجد الأٌقصى ،وكذلك نجح شعبنا في الداخل الفلسطيني – 48- في إفشال مخطط ومشروع “برافر” العنصري لطرد تهجير شعبنا في النقب (تشرين اول/2013)،ومنع إزالة وهدم أكثر من 40 قرية هناك،تصنفها دولة الكيان،كقرى غير معترف بها،وكذلك لم تنجح دولة الكيان من شطب قرية العراقيب وتهجير سكانها،رغم هدمها للمرة ال 212.وهناك نماذج لمقاومة شعبية جدية وحقيقية في قرية بيتا – نابلس التي دفعت تسعة ش ه داء ،لمنع الإستيلاء على جبل صبيح وإقامة بؤرة استيطانية عليه،وكذلك أهالي مسافر يطا،حيث مخاطر الإقتلاع والتهجير والتطهير العرقي تتهدد 12 تجمع هناك،وبما يعني تشرد أكثر من ثلاثة ألآلاف فلسطيني.
أما في القدس التي تعرض لأوسع عملية تهويد وأسرلة،عبر سياسات الطرد والتهجير والتطهير العرقي وهدم المنازل،برز تجمع الخان الأحمر شرق مدينة القدس،الذي أصدرت الإدارة المدنية والحكم العسكري في آذار /2010 ،قراراً بإخلائه ،وهدم كل المنازل والمنشأت والبركسات المقامة عليه،لأغراض واهداف سياسية وتهويدية،فالطرد والتهجير لسكان الخان الأحمر،يسمح بالسيطرة على ما مساحته 12 الف دونم،من شرق القدس وحتى مشارف البحر الميت،وكذلك يغلق البوابة الشرقية لمدينة القدس،ويلغي ما يعرف بحل الدولتين ويفصل شمال الضفة عن جنوبها،ولعل صمود أهالي الخان وثباتهم على أرضهم،والفعاليات والإحتجاجات الشعبية والجماهيرية،والإعتصامات والمبيت بشكل متواصل لمدة أربعة شهور داخل الخان من قوى وفعاليات ومناصرين أجانب،وكذلك قرار الجنائية الدولية الذي اعتبر قرار الطرد والتهجير يرتقي لجريمة حرب،منع تنفيذ قرار ما يعرف بمحكمة العدل العليا لطرد وتهجير سكان الخان الأحمر،ومع تولي الحكومة اليمينية المتطرفة بالشراكة مع الفاشية اليهودية،برزت قضية تهجير سكان الخان الأحمر للواجهة من جديد،وفي ظل إصرار السكان في الخان على رفض اقتلاعهم،والدعم والإسناد الشعبي لمواقفهم،والظرف السياسي الذي تعيشه دولة الكيان،أجلت ما يعرف بمحكمة العدل العليا قرارها في 1/2/2023،بإخلاء الخان الأحمر لمدة أربعة شهور،لتمكين المستوى السياسي من تهيئة الأجواء للهدم.
اما فيما يتعلق ب”بروفات” العصيان المدني ورفض سياسات التهويد والتهجير وهدم المنازل ،فهنا سنتطرق لتجربتين على درجة عالية من الأهمية ،واحدة من جبل المكبر وأخرى من مخيم شعفاط،فقرية جبل المكبر التي تشكل الخاصرة الجنوبية لمدينة القدس،تتعرض لمخاطر التهويد واستهداف الحجر،وبما ينتج عن ذلك من طرد وتهجير واقتلاع،فأكبر بؤرة استيطانية “نوف تسيون” (400) وحدة إستيطانية تقع في قلب جبل المكبر،شرع في بنائها عام 2004،على ثلاثة مراحل،أنجزت المرحلتان الأولى والثانية وخلال الأربع أعوام القادمة تكون المرحلة الأخيرة قد استكملت،ويخطط لتوسيع تلك المستوطنة ل 500 وحدة استيطانية وإقامة 275 غرفة فندقية على قمة الجبل،وبناء أكبر قاعدة عسكرية على أطراف المكبر،ناهيك عن الشارع الأمريكي،كمشروع إستيطاني وجزء من شارع الطوق الشرقي، الذي التهم مئات الدونمات من أراضي ام طوبا وصورباهر والشيخ سعد والمكبر وسلوان.
المكبر ككتلة بشرية كبرى في المدينة مع قريتي سلوان وصورباهر،وكعواسق أمام تهويد المدينة، فلا بد من تفتيتهما ومنع التواصل بينهم، عبر تكثيف الإستيطان والتطهير العرقي وإقامة بؤر استيطانية، تمنع التواصل بينهم،وكذلك هدم وتهجير اكبر عدد من البيوت، فتهويد البوابة الجنوبية للقدس،مع مشاريع تهويد البوابة الشمالية احياء الشيخ جراح الغربي والشرقي وواد الجوز، يضع البلدة القديمة بين فكي كماشة استيطانية تهويدية،ويحول الوجود الفلسطيني المقدسي الى جزر متناثرة في محيط إسرائيلي واسع.
مع بدايات عام 2022،اخطرت بلدية الكيان سكان المكبر، بأنه ستشرع بهدم 130 منزل مقدسي 62 منها تقع في مرمى الشارع الأمريكي،و70 بيت أخر تحت حجج وذرائع البناء غير المرخص،وللتصدي لهذا القرار في شباط وآذار من عام 2022 ، نفذ أهالي المكبر ،سلسلة من الأنشطة والفعاليات الإحتجاجية، صلوات في ملعب البلدة أيام الجمع بالألاف،ووقفات احتجاجية امام بلدية الكيان،ولمنع تصاعد وتواصل تلك الفعاليات الإحتجاجية وتطورها،وإمكانية،ان تصبح قاعدة إنطلاق لحركة شعبية جماهيرية واسعة تشمل كل احياء مدينة القدس،وبما من شأنه ان يربك حكومة الكيان،ويعرضها لإنتقادات دولية واسعة،ويشوه صورتها امام الرأي العام العالمي،مع الصور التي تبث لبيوت مهدومة يقف على أطلالها أطفال باتوا بدون مأوى يبحثون عن باقي كتبهم ودفاترهم والعابهم وذكرياتهم تحت ركام منازلهم.عمدت بلدية الكيان الى تجميد قرارات الهدم لمدة عام،والطلب من السكان القيام بعمليات الترخيص للمنازل المهددة بالهدم،وهي تدرك بأن إجراءات الترخيص المعقدة والتعجيزية،لن تمكن احد من ترخيص منزله،وكان الهدف الأساس لبلدية الكيان،تنفيس حالة الإحتقان والغضب الجماهيري،ومع تشكل حكومة اليمين المتطرف والكهانية اليهودية،برزت مجدداً،قضية هدم المنازل للمقدسيين في مدينة القدس (22000 ) منزل مقدسي بدون ترخيص،وخاصة مع تولي المتطرف بن غفير لمسؤولية ما يعرف بالأمن القومي في دولة الكيان، على ان يشرع بهدم 14 منزلاً بشكل فوري من بوابة جبل المكبر،فالمكبر الحلقة القوية التي بكسرها،تصبح الطريق سالكة للقيام بعمليات الهدم في القرى والبلدات المقدسية الأخرى،ومع هدم اول خمسة منازل ومنشئات تجارية وحظائر أغنام،وفي ظل التهديد بإستكمال مخطط الهدم،طور أهالي جبل المكبر من خلال حراكاتهم الشبابية وعشائرهم ،مواقفهم ومبادراتهم الميدانية لوقف سياسة الهدم بحق منازلهم،وبما يعني طردهم وتهجيرهم،حيث جرى في يوم الثلاثاء 31/1/2023،تعطيل كل مظاهر الحياة في بلدة جبل المكبر،واغلاقها بشكل كامل بالمتاريس والإطارات المشتعلة والحجارة،وكذلك سكب الزيوت على الشوارع والطرقات لمنع جرافات وبلدوزرات وقوات الاحتلال من التحرك والتقدم نحو البيوت المهددة بالهدم،ناهيك عن ان سلسلة بشرية أحاطت بالمنزل المهدد بالهدم ،وامام هذه الحالة تراجعت دولة الكيان عن هدم البيت المهدد بالهدم،لكي تتحين الفرصة واللحظة المناسبة،لكي تعاود هجمتها من جديد.
أما في تجربة مخيم شعفاط،فبعد ا س ت ش ه اد عدي التميمي منفذ العملية النوعية على حاجز المخيم، وحصار جيش الكيان واستباحته للمخيم،وممارسة كل اشكال القمع والتنكيل بسكانه،اعلن سكان المخيم حالة عصيان مدني،توقف كل مظاهر الحياة في المخيم،من تعطيل العملية التعليمية وحركة المواصلات وعدم خروج العمال الى العمل واغلاق المحال التجارية..الخ،هذا المخيم الذي تعرض للحصار واحتضن ا ل ش ه ي د التميمي، اضطر حكومة الكيان بعد ستة أيام للرضوخ لمطالب السكان ورفع الحصار عن المخيم.
في تجربتي المكبر ومخيم شعفاط،واضح دور الحركة الشعبية والجماهيرية في فرض شروطها على دولة الكيان،وكذلك الحركة الشعبية بكل مكوناتها من شباب وقوى ومؤسسات وعشائر، عزفت على نفس الوتر ،وقيادات الحركة الإحتجاجية ومظاهر العصيان المدني،بدت موحدة ومتماسكة ،وكانت لديها مطالب واهداف محددة وواضحة ،ناهيك عن حالة التلاحم الكبيرة بين كل أبناء البلدة والمخيم…وكذلك وجدنا بأن الإبداعات الميدانية، في قضايا الإغلاق واشكال المقاومة، وما تحقق ويتحقق من إنجازات، تسهم في تركيم تلك الإنجازات والنجاحات والتطور في أساليب وأشكال المقاومة الشعبية،وهذا الأشكال الشعبية للمقاومة والتي قرعت بقوة جدران الخزان، كان لها ان تأخذ البعد الشمولي والعام،لو أن هناك من القوى والفصائل والمؤسسة الرسمية من التقط هذه المبادرات وبنى عليها وطورها.