تُعدّ المسرحيات العبثية التي لا يحدث فيها شيء إحدى الوجوه الفنية التي تعكس نظرة الإنسان لما حوله، وبتدقيق بسيط يمكن ملاحظة مدى عبث بايدن في بناء مسرحيته، وبحثه عن الشكلية الخالية من أي معنى.

“في انتظار غودو” هي مسرحية للكاتب الإيرلندي الشهير صمويل بيكيت، تنتمي للكوميديا العبثية المأساوية  وتدور أحداثها حول رجلين يُدعيان “فلاديمير” “واستراغون” ينتظران شخصاً يدعى “غودو” لا يأتي أبداً. وفي أثناء انتظارهما، ينخرطان في مجموعة متنوعة من الحوارات ويقابلان شخصيات مختلفة، ولسوء الحظ، لا يمكن لهما أن يستدلا أو يتفقا على المكان والزمان المتوقع أن يلتقيا فيه بـ “غودو”.

إنهما يعرفان فقط أن عليهما الانتظار عند الشجرة بلا نهاية، وحين يأخذهما اليأس من الانتظار يفكران بالمكافآت المحتملة للاستمرار في انتظارهما لغودو، فيعودان للانتظار. 

يبدأ المونولوج متماسكاً نسبياً، لكنه سرعان ما يذوب مع الإسهاب في الغفلة والاستغفال، خاصة بعد أن يصل صبي، يزعم أنه رسول أرسله غودو ليخبر الرفيقين أنه لن يأتي في ذلك المساء “ولكن بالتأكيد سيأتي غداً”، فينتظر الاثنان غودو مرة أخرى، حتى يفقدا الإحساس بالوقت.

تترك قصة بيكيت “في انتظار غودو” التي دخلت الإرث العالمي والإنساني، مساحة لإمكانية تطبيقها على مختلف المواقف، فلكل شخصٍ الحرية في التصرف والاقتباس منها والنسج على منوالها، وربما هذا هو السبب في أنه يمكن إسقاط حبكة “في انتظار غودو” في سياقات مختلفة تماماً، بدءاً من السجين في السجن الذي ينتظر الحارس ليطلق سراحه، إلى انتظار السلام بعد الحروب، أو انتظار المساعدات بعد النجاة من إعصار أو كارثة، إلى انتظار الصفقة ووقف إطلاق النار في غزة بعد كل هذه المفاوضات “العبثية” التي تقودها الولايات المتحدة. 

ومع قليل من الخيال، يمكن لمسرحية “في انتظار غودو” أن تُلعب أيضاً في غرف المفاوضات المُغلقة، بل وخارجها “لقتل الوقت” وفق رغبة نتنياهو “غودو الإسرائيلي” في هذه الحالة، ليعيد الجميع مرةً أخرى إلى نقطة البداية، حيث مواقفه المُعتادة ذاتها “المتشنّجة” المُستمرة في المراوغة والتعطيل. وإن كنا لا نعرف ما الذي يمكننا توقعه، فإن الولايات المتحدة تقترح أن يأخذنا خيالنا في رحلة طويلة من انتظار نتنياهو يتحول فيها كل شيء حولنا إلى “غير مؤكد”.

تُصوِّرُ مسرحية صمويل بيكيت حالة من الانتظار الغامضة كتلك التي نمر بها اليوم في انتظار نتائج مفاوضات الصفقة، آملين بأن “غودو الإسرائيلي” سيأتي ربما ليس اليوم، لكن غداً بالتأكيد!. إنها قصة مسرحية مليئة بالمفاوضات الملتوية الغامضة بين أطراف مختلفة تنتظر شخصاً أرعن مُتعجرفاً، في مكان غير واضح وفي وقتٍ غير معروف. وكما أن أياً من مسرحيات القرن العشرين لم تُثر مثل هذا القدر الكبير من اللغظ الذي أثارته مسرحية “في انتظار غودو”، كذلك تفعل المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة لعقد صفة تبادل بين المقاومة و”إسرائيل”، ومثلما يُناقش “فلاديمير” و”استراغون” الأفكار التي تدور في ذهنيهما أثناء فترة انتظار غودو، تُعيد الولايات المتحدة تدوير مواقف نتنياهو، التي هي بنات أفكاره، وتناقشها معه بصورة سخيفة، مضحكة ومُربِكة بعد أن عاد وانقلب عليها وتنكّر لها مراراً وتكراراً.

تكشف مسرحية “في انتظار غودو الأميركية” عمق أزمة انتظار الخلاص من هذ الحرب وتداعياتها، ضمن مناخ سوداوي تُغلّفه كوميديا ضعيفة تَسخَرُ من الجميع بُلغة وحبكة مبتذلة مملة عديمة الفائدة، يبدو السأم فيها سيد الموقف. وفيما تستغرق الولايات المتحدة في التفكير والتصرف بشكل “استعراضي فارغ”، يستمر نتنياهو في المماطلة والتعطيل، التي لا تملك الإدارة الأميركية أمامهما سوى تذكيرنا بأن “علينا البقاء والانتظار”، وبأنه “حان الوقت للتأكد من عدم إقدام أي شخص على خطوات تُعطّل إمكانية التوصل إلى صفقة ووقفٍ لإطلاق النار”، بل وترسل، أي الإدارة الأميركية، “الصبي” بلينكن مرة أخرى، تاسعة، بعد سلسلة جولات سابقة “فارغة” ممثالة، ليقول لنا إن غودو الإسرائيلي لن يأتي اليوم، لكنه سيصل غداً بالتأكيد؛ إنه العبث ولا شيء يحدث غير العبث!.

تتوالى سرديات نتنياهو والإدارة الأميركية حول الحرب والصفقة وتتناسل ضمن ثنائية السيد والعبد، المُتمني والمُعطّل، كما نراها من منظور تأملي ساخر تُفقد فيه المتابع، بعد كل عرض، الإحساس بالوقت، فلا يعود يذكر كم مرة أتى بلينكن من قبل، ولا يُتوقع أيضاً أن يتذكر وقائع زيارة اليوم في المستقبل. 

هكذا تمسك إدارة بايدن بخيوط الأحداث التي لم تحدث، وتنسج لسلوك شديد الإثارة والتوثب، يمزج بين أمل ميئوس منه، ويأس مأمول منه، ضمن لعبة مسرحية ساخرة. وكما عبث صمويل بيكيت بالوقائع والأحداث إلى درجة المنطق، تحاول الولايات المتحدة أن تُزاوج بين الواقع والتمنيات في عمل مسرحي سمج يشبه الفُكاهة السوداء.

يمارس بايدن وإدارته لعبتهما المفضلة في مغالطة ولع الناس بالجديد، عبر ثرثرة غير مفهومة حول فرص وإمكان تنفيذ “الصفقة ووقف إطلاق النار الذي لن يأتي”. إنه باختصار نقاش غير مثمر؛ إذ إن الطرفين متباعدان مختلفان، فنتنياهو شخص لا يهتم إلا بنفسه ومستقبله السياسي، وغالباً ما يذهب لتعطيل هذا المسار بل نسفه، والمقاومة على النقيض معنية بالدخول في مسار جدي يفضي لإطلاق سراح الأسرى ووقف هذه الحرب التدميرية على غزة.

وحقيقة الأمر، أنه لا يوجد عند بايدن وإدارته أي جديد، فالحدث هو ما لا يحدث، وربما يصبح “ما لا يحدث هو أفضل الأحداث” وفق التعبير الإنكليزي، ذلك أن نتنياهو قد لوى عُنق الحكاية وتمرّد على حليفه الأميركي وأخضعه لرغباته، وكذا فعل من الهيئات والمنابر الدولية التي عَطّلها وحقّرها ولم يعد يقيم لها وزناً، وهو ما أكسبه شُهرةً بعد موجات من الغضب والاستهجان في الأوساط الإسرائيلية، لذلك لم يكن غريباً، وفق هذه المقاربة، أن تتحوّل المفاوضات إلى عملٍ مسرحي سَمِج تتندّر حوله جميع المجتمعات والأوساط العامة والشعبية في تعبيرٍ مؤلم عن فقدان الأمل في الوصول إلى شيء في “انتظار غودو الإسرائيلي”. 

تُعدّ المسرحيات العبثية التي لا يحدث فيها شيء على الإطلاق إحدى الوجوه الفنية التي تعكس نظرة الإنسان لما حوله وكيفية تعاطيه معه، وبتدقيق بسيط يمكن ملاحظة مدى عبث بايدن في بناء مسرحيته، وبحثه عن الشكلية الخالية من أي معنى؛ فلا حَدث ولا حبكة ولا منطق، ومع ذلك يريد بايدن أن يمنحنا في النهاية إحساساً بالتفاؤل المبني على أن “لا شيء يحدث ولكن لا شيء سيظل في مكانه”، وهو ما نسميه في الدارجة العربية “في الحركة بركة”!.

وأخيراً، يبدو أنه أمام الزمن ورتابته المؤلمة، الحرب وحطامها، أسئلة متى وكيف وأجوبتهما، والعجز حتى عن التفكير في إمكان الوصول إلى نهاية لحرب الإبادة التدميرية هذه؛ أمام كل هذا لا يوجد إلا الانتظار؛ الانتظار كنوع من أنواع الفعل، الذي نجزم بأنه الوسيلة الوحيدة البائسة المتبقية لدى الإدراة الأميركية لاستجداء “غودو الإسرائيلي” في انتظار أن يأتي أو يأتي أحدٌ ما به.