كتب مازن الجعبري|

ما حدث يوم الاحد، الموافق 29 مايو/أيار المنصرم، خلال مسيرة الاعلام الصهيونية بذكرى احتلال الجزء الشرقي من القدس عام 1967 يعتبر حدثا مهما في تطور الصراع ونتائجة على مستقبل العمل الفلسطيني ووضع مدينة القدس في ظل استمرار المشروع الكولونيالي على ارض فلسطين وعلى الوضع الداخلي الفلسطيني.

قراءة معمقة للمشهد العام ليوم المسيرة تستوجب العودة عام كامل الى مجريات نتائج هبة أيار العام الماضي والتي حقق فيها الفلسطينيين مكاسب افتقدوها منذ سنوات طويلة وخاصة إحياء الهوية الوطنية الجامعة التي تتعرض للتقسيم والشرذمة والتذويب والانقسام بسبب المشاريع السياسية  التي تهدف الى تهميش القضية الفلسطينية, هبة أيار أعادة ترميم الكيانية الوطنية الواحدة في فلسطين التاريخية وفي الشتات, وأيضا امتداد الهبة ومظاهر العمل الوطني المقاوم الى كل الجغرافيا الفلسطينية وخاصة في الأراضي المحتلة عام 48 مما وحد المكانية الفلسطينية في الحيز الوطني وأعاد الاعتبار الى الثوابت الفلسطينية وهي الأرض الفلسطينية, هبة أيار الماضي إعادة الاعتبار للمقاومة بكافة أشكالها الجماهيرية والمسلحة(معركة سيف القدس) وأعطت املاً قويا لتجنيد قوى الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال في كل الأراضي الفلسطينية وأحيت التمسك بان المقاومة بكافة اشكالها كفيلة بأعادة الوحدة للشعب الفلسطيني وهي القادرة على القضاء على المشاريع السياسية التصفوية وخاصة اوسلو بكل مركباته وانها ستتجاوز الانقسام الفئوي من خلال الوحدة الميدانية للمقاومة الفلسطينية.

القدس والمسجد الأقصى من خلال صمود ومقاومة سكانها مع الفلسطيننيين من الأراضي المحتلة عام 48 المنخرطين معا في جولات الصراع المختلفة منذ عام 2014 وحتى اليوم جعلوا القدس والمسجد الأقصى مركز وجوهر الصراع الحالي بين المشروع الصهيوني والمشروع الوطني في ظل الضعف الذي أصاب الجسم الفلسطيني بسبب مشروع اوسلو والانقسام الفئوي, القدس واصلت رفع الراية في مركز الصراع الحالي ورسخت مركزيتها  وتصدرها المشهد  وقيادته في الصراع ضد الاحتلال بالرغم من جبروت الاحتلال وقوته وهيمنته وقمعه, معركة سيف القدس العام الماضي إضافة معادلات جديدة على ما سبق وخاصة الربط بين المقاومة المسلحة والعمل الجماهيري المقاوم وثانيا التأكيد على مركزية النضال في القدس من خلال ربط الجغرافيا الفلسطينية المقاومة وكسر عقود من تجزئة الحيز الفلسطيني للنيل من القضية الفلسطينية, هذه المعادلة المستقيمة مع القدس فرضت واقعا جديدا كان يجب البناء عليه وطنيا وليس فئويا لتقوية المشروع الوطني الجامع الذي يتعرض للتصفية.

كيان الاحتلال لم يتقبل الخسارة في باب العامود والشيخ جراح والمسجد الأقصى ولا في تدخل المقاومة المسلحة وخاصة تأثير كل ذلك على مشاريعه التهويدية والعنصرية في مدينة القدس والأخطر على قوة الردع لديه التي تعرضت للتأكل امام المقاوم الفلسطيني وبالتالي عدم الشعور بالأمان لدى اليهود في مركز تل ابيب, هذا الارباك دفعهم  العمل بكل الوسائل للتقليل من مكاسب الفلسطينيين من خلال العقوبات والقمع والاعتقال ومزيد من الهدم والاستيطان وسياسات عنصرية وتهجير لاحياء كاملة في المدينة والأخطر تجمييد مشاريعه ومخططاته لتغيير مكانة المسجد الأقصى الدينية والتاريخية بسبب صمود الفلسطينيين في مدينة القدس.

الفترة التي سبقت شهر رمضان المبارك هذا العام كانت فترة استعدادات لدى الجانبين ومرحلة عض على الأصابع, المحتلين يريدون تدمير المكاسب التي حققها الفلسطينيين من خلال أعادة صنع المشهد مع تكثيف الاعتداء, والفلسطينيين كانوا يستعدون للحفاظ على المكاسب التي حققوها خلال عام كامل من التضحية وهم يدركون أهمية عدم سحب منجزاتهم لقدرة العدو على التقدم بشكل سريع بمشاريعه في مدينة القدس.

أحداث شهر رمضان هذا العام كانت خسارة كبيرة في تقدم إجراءات العدو من خلال القوة العسكرية وتفريغ ساحات المسجد الأقصى المبارك بالقوة وأدخال المستوطنين الى المسجد الأقصى وسجل العدو مكسب في اقتحام المسجد القبلي وأعتقال جميع المرابطين وفرض وجوده بالقوى, هذا المشهد القهري لا يلغي بتاتا مشهد المرابطين والمقاومين داخل المسجد الأقصى والذي كان حاضرا ومتواجدا في مواجهة العدو وتقدم في خطوات الارباك والنضال الجماهيري والاعتكاف بالإضافة الى استخدام الاعلام وتكثيفه في جولة الصراع المحتدمة على المسجد الأقصى المبارك.

هذه الجزئية من الصراع حاول ان يصورها البعض على انها انتصار وحاول البعض استغلالها فئويا في مسألة رفع الاعلام والقليل تعامل معها على انها خسارة جولة مهمة كان بالإمكان الحفاظ عليها لو كان هناك عمل وطني عام, وهنا بدأت التصريحات النارية والتهديدات والتحدث عن خطوط حمر وإدخال مصطلحات مثل “المس” ورفع سقف الرد عند المقاومة والتعامل مع الصراع على انه جولة احداثها ثابته ولا حاجة للبناء عليها وبالتالي تجاهل قوانين الصراع وتجربتنا مع هذا العدو انه صراع وجولات لا وجود فيها لقواعد ثابتة ولا انتصارات او هزائم دائمة وان تسجيل النقاط مرحلة يجب البناء عليها وليس التوقف عليها, بالمجمل هذا عكس عمق الفئوية والاتقسام الفلسطيني والعودة الى المربع الأول .

شكلت جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة ووليد الشريف خلال الشهر الحالي تحولا نوعيا في الوجود الفلسطيني وشكلت مرتكزا في نهوض فلسطيني ملموس بعد احداث شهر رمضان المبارك وأعطت دفعة جديدة في المقاومة الجاهيرية وفي انخراط الكل الفلسطيني في القدس تحت العلم الفلسطيني وأظهرت رمزية الصراع عبر رفع العلم الذي أصبح عنوانا للهوية والسيادة, وفي هذه الجولة حقق الفلسطينيين مكاسب جديدة بعد خسارتهم في شهر رمضان, وكان من الممكن البناء عليها لمواجهة مسيرة الاعلام, وفي هذه اللحظات الزمنية تم تجاوز الواقعية الى العاطفة والفئوية في التأكيد على ثوابت ورسم نهايات تتنافى مع حيثيات الصراع الوطني وأقرب الى مفهوم الدول وليس الثورات وهذا ادخل الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية في ازمة كان يمكن تجاوزها لو اقتربنا من الواقع وتواضعنا في قدراتنا والتصقنا خلف الجماهير التي أثبتت انها على مستوى عالي من الوعي والمسؤولية والمبادرة والابداع في مواجهة المحتل.

قبل يومين من مسيرة الاعلام صرح وزير الجيش الإسرائيلي بيني غانتس خلال لقاءه مع نشطاء من حزبه كاحول لفان “ان حماس لن تقوم هذه المرة باطلاق الصواريخ كما فعلت العام الماضي” ,تصريحات مثيرة وخاصة بالنظر الى القرار الحكومي الإسرائيلي بالمضي قدما في مسيرة الاعلام كما هو مخطط لها ومثل كل عام والتفاف المعارضة والشارع الإسرائيلي حول القرار وهو اجماع ان المسيرة تحولت الى قضية قومية وسياسية من الدرجة الأولى عقب كل ما حدث ابتداءا من هبة القدس الماضية وحتى الفترة التي سبقت مسيرة الاعلام, وبرأيي يجب النظر الى عاملين لتحليل الموقف الإسرائيلي المصمم والقوي أولا ان مسيرة الاعلام تحولت الى صراع على حافة النار والتنازل عنها سوف يبقي المكاسب السياسية التي حققها الفلسطينيين خلال العام الماضي وهي ان السيادة على الأرض للفلسطينيين وان القدس مدينة محتلة ومجزاءة بالإضافة الى أهمية تمزيق الحيز الفلسطيني, والعامل السياسي الثاني هي مسألة سياسية داخلية وهي إعادة لاعتبار والردع لحكومة الائتلاف الحالي امام الشارع الإسرائيلي والتي تأكلت بسبب العمليات الفلسطينية الفردية وثانيا اظهار ان الحكومة قادرة ان تحقق إنجازات من خلال مسيرة الاعلام والذي لم يستطع نتنياهو تحقيقها عندما اجبر على تغيير مسارها العام الماضي, ومن الممكن  ان يكون هناك عوامل أخرى ان الحكومة الإسرائيلية كانت لديها معلومات ان المقاومة الفلسطينية لن تطلق الصواريخ كما فعلت العام الماضي, وهذا صلب موقفها للتقدم الى الامام وانتهاز الفرصة لتجاوز خسائر العام الماضي.

مسيرة الاعلام شكلت مكاسب جديدة للاحتلال أولا من خلال تجاوزها كل ما هو محظور في المسجد الأقصى المبارك, الصلاة الجماعية ورفع الاعلام الإسرائيلية والرقص والغناء التوراتي والاعداد الكبيرة للمقتحمين, وعلى صعيد مسيرة الاعلام التي ابتداءت منذ عصر يوم السبت، السابق لها،وعلى شكل مجموعات صغيرة من المستوطنين استمرت حتى فجر يوم الاحد والتي تم فيها الاعتداء على الفلسطينيين والصلاة على أبواب المسجد الأقصى المبارك والغناء والرقص واستفزاز الفلسطينيين, وتم تتويج هذا اليوم بالمسيرة الكبرى والتي جاوزت ال 50000 مستوطن تحت حماية الاف الجنود, والتي وصلت الى باب العامود والاحياء الفلسطينية في البلدة القديمة وتخللها الاعتداءات والشتم والتجول في كل أشوارع البلدة القديمة ورفع الاعلام الصهيونية.

بالمقابل رابط المقدسيين في المسجد الأقصى المبارك وحاولوا ارباك الاقتحامات وتم الاعتداء عليهم ومنع الكثير من الدخول الى المسجد الأقصى المبارك, وتم رفع العلم الفلسطيني في كل الاحياء الفلسطينية ونظم الفلسطينيين مسيرة اعلام في شارع صلاح الدين وامتدت المواجهات الى كل الاحياء الفلسطينية رغم خيبة الامل التي شعر بها الفلسطينيين في مدينة القدس انهم تركوا لوحدهم.

أخيرا الساحة الفلسطينية ما زالت أسيرة للانقسام والمشاريع السياسية وهذا ما يضعفها امام العدو الرئيسي, ان مسألة الوحدة قضية جوهرية في الصراع وفي السياق الاستراتيجي ضرورة لانهاء الاحتلال, الفئوية قوة عاكسة للمقاومة والعمل الجماهيري المقاوم والبديل عنها حتى تتحقق المقاومة الميدانية وتذويب كل الجهود في المصلحة العامة, هذه الجبهة ضرورية لتماسك الصراع والمقاومة حتى تجاوز الواقع السياسي الفلسطيني الحالي, أيضا ليس بالضرورة حتى انهاء الانقسام الفئوي الذي كسر ظهر الشعب الفلسطيني, الشعب الفلسطيني قادر على تجاوز ذلك من خلال المقاومة والصمود بكل اشكال النضال المتاحة القادرة على تجاوز المأزق السياسي الداخلي, ان التجربة الماضية بكل مألاتها واخطائها يجب ان نتعلم منها وان نتجاوزها فنحن في صراع وجودي لن تحسمه جولة او معركة, والقدس يجب ان يكون لها كلمة في القرار الفلسطيني لأنها تشكل حاليا في داخلها مركزية وقدرة على الاستمرار وتجاوزت الضعف الداخلي وهي راس الحربة في الصراع حاليا وهذا يخولها القيادة وان يكون لها تأثير على القرار الوطني وأيضا بوابة بعث المشروع الوطني الجامع مرة أخرى.